فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الملك} أي بعضًا منه عظيمًا وهو ملكُ مصرَ: {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} أي بعضًا من ذلك كذلك إن أريد بتعليم تأويلِ الأحاديث تفهيمُ غوامضِ أسرارِ الكتب الإلهية ودقائقِ سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالترتيبُ ظاهر، وأما إن أريد به تعليمُ تعبيرِ الرؤيا كما هو الظاهرُ فلعل تقديمَ إيتاءِ الملك عليه في الذكر لأنه بمقام تعدادِ النعم الفائضةِ عليه من الله سبحانه والمُلك أعرقُ في كونه نعمةً من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضًا نعمةً جليلةً في نفسه، ولا يمكن تمشيةُ هذا الاعتذارِ فيما سبق لأن التعليمَ هناك واردٌ على نهج العلة الغائيةِ للتمكين فإن حُمل على معنى التمليك لزم تأخرُه عنه، وأما الواقعُ هاهنا فمجردُ التأخيرِ في الذكر والعطفُ بحرف الواو، ولا يستدعي ذلك الترتيبَ في الوجود: {فَاطِرَ السموات وَالأَرْضِ} مُبدعَهما وخالقَهما، نُصب على أنه صفةٌ للمنادى، أو منادى آخرُ وصفه تعالى به بعد وصفِه بالربوبية مبالغةً في ترتيب مبادئ ما يعقُبه من قوله: {أَنْتَ وَلِيِّي} مالكُ أموري: {فِى الدنيا والآخرة} أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما وإذ قد أتممتَ عليّ نعمة الدنيا: {تَوَفَّنِى} اقبِضْني: {مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامةِ فإنما تتم النعمةُ بذلك، قيل: لما دعا توفاه الله عز وجل طيبًا طاهرًا فتخاصم أهلُ مصرَ في دفنه وتشاحّوا في ذلك حتى همّوا بالقتال فرأوا أن يصنعوا له تابوتًا من مَرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل ليمُرَّ عليه ثم يصلَ إلى مصر ليكونوا شرعًا واحدًا في التبرك به، ووُلد له أفراييم وميشا، ولأفراييم نونٌ، ولنونٍ يوشعُ فتى موسى عليه الصلاة والسلام ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيلَ تحت أيديهم على بقايا دين يوسفَ وآبائِه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام. اهـ.

.قال الألوسي:

{رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} أي بعضًا عظيمًا منه فمن للتبعيض ويبعد القول بزيادتها أو جعلها لبيان الجنس والتعظيم من مقتضيات المقام، وبعضهم قدر عظيمًا في النظم الجليل على أن مفعول به كما نقل أبو البقاء وليس بشيء، والظاهر أنه أراد من ذلك البعض ملك مصر ومن: {الملك} ما يعم مصر وغيهرا، ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يراد من الملك مصر ومن البعض شيء منها وزعم أنه لا ينافي قوله تعالى: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} [يوسف: 56] لأنه لم يكن مستقلًا فيه وإن كان ممكنًا فيه وفيه تأمل، وقيل: أراد ملك نفسه من إنفاذ شهوته، وقال عطاء ملك حساده بالطاعة ونيل الأماني وليس بذاك: {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} أي بعضًا من ذلك كذلك، والمراد بتأويل الأحاديث أما تعليم تعبي الرؤيا وهو الظاهر وإما تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء، وعلى التقديرين لم يؤت عليه السلام جميع ذلك، والترتيب على غير الظاهر ظاهر وأما على الظاهر فلعل تقديم إيتاء الملك على ذلك في الذكر لأنه بمقام تعداد النعم الفائضة عليه من الله سبحانه والملك أعرق في كونه نعمة من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضًا نعمة جليلة في نفسه فتذكر وتأمل.
وقرأ عبد الله وابن ذر: {آتيتن وعلمتن} بحذف الياء فيهما اكتفاء بالكسرة، وحكى ابن عطية عن الأخير: {رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى} بغير: {قَدْ}.
{فَاطِرَ السموات والأرض} أي مبدعهما وخالقهما، ونصبه على أنه نعت لرب أو بدل أو بيان أو منصوب بأعني أو منادي ثان، ووصفه تعالى به بعدو صفه بالربوبية مبالغة في ترتيب مبادئ ما يعقبه من قوله: {رَبّ قَدْ} متولى أموري ومتكفل بها أو موالي لي وناصر: {فِى الدنيا والاخرة} فالولي إما من الولاية أو الموالاة، وجوز أن كيون بمعنى الموالي كالمعطي لفظًا ومعنى أي الذي يعطيني نعم الدنيا والآخرة: {تَوَفَّنِى} أقبضني: {مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} من آبائي على ما روى عن ابن عباس أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة كما قيل، واعترض بأن يوسف عليه السلام من كبار الأنبياء عليهم السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فكيف يليق به أن يطلق اللحاق بمن هو في البداية؟ وأجيب بأنه عليه السلام طلبه هضمًا لنفسه فسبيله سبيل استغفار الأنبياء عليهم السلام، ولا سؤال ولا جواب إذا أريد من الصالحين آباؤه الكرام يعقوب وإسحق وإبراهيم عليه السلام، وقال الإمام: هاهنا وههنا مقام آخر في الآية على لسان أصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة إذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحد منها إلى الأخرى بسبب تلك الملاءمة والمجانسة فعظمت تلك الأنوار وتقوت هاتيك الأضواء، ومثال ذلك المرايا الصقيلة الصافية إذا وصفت وصفًا متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحد منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الإشراق والبريق إلى حد لا تطيقه الأبصار الضعيفة فكذلك هاهنا انتهى.
وهو كما ترى، والحق أن يقال: إن الصلاح مقول بالتشكيك متفاوت قوة وضعفًا والمقام يقتضي أنه عليه السلام أراد بالصالحين المتصفين بالمرتبة المعتنى بها من مراتب الصلاح، وقد قدمنا ما عند أهل المكاشفات في الصلاح فارجع إليه.
بقي أن المفسرين اختلفوا في أن هذا هل هو منه عليه السلام تمنى للموت وطلب منه أم لا؟ فالكثير منهم على أنه طلب وتمنى لذلك، قال الإمام: ولا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لأنه حينئذ يحس بنقصانه مع شغفه بزواله وعلمه بأن الكمال المطلق ليس إلا لله تعالى فيبقى في قلق لا يزيله إلا الموت فيتمناه، وأيضًا يرى أن السعادة الدنيوية سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها مع أنه ليس هناك لذة إلا وهي ممزوجة بما ينغصها بل لو حققت لا ترى لذة حقيقية في هذه اللذائذ الجسمانية وإنما حاصلها دفع الآلام، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع، ولذة النكاح عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته، وكذا الإمارة والرياسة يدفع بها الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام ونحو ذلك، والكل لذلك خسيس وبالموت التخلص عن الاحتياج إليه، على أن عمدة الملاذ الدنيوية الأكل والجماع والرياسة والكل في نفسه خسيس معيب، فإن الأكل عبارة عن ترطيب الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ولا شك أنه مستقذر في نفسه؛ ثم حينما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة والتعفن ومع ذا يشارك الإنسان فيه الحيوانات الخسيسة فيلتذ الجعل بالروث التذاذ الإنسان باللوزينج، وقد قال العقلاء: من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، والجماع نهاية ما يقال فيه: إنه إخراج فضلة متولدة من الطعام بمعونة جلدة مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك، وفيه أيضًا تلك المشاركة وغاية ما يرجى من ذلك تحصيل الولد الذي يجر إلى شغل البال والتحيل لجمع المال ونحو ذلك، والرياسة إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازع فيها ويطمح نظره إليها فصاحبها لم يزل خائفًا وجلا من ذلك لكفاها عيبًا، وقد يقال أيضًا: إن النفس خلقت مجبولة على طلب اللذات والعشق الشديد لها والرغبة التامة في الوصول إليها فما دام في هذه الحياة الجسمانية يكون طالبًا لها وما دام كذلك فهو في عين الآفات ولجة الحسرات، وهذا اللازم مكروه والملزوم مثله فلهذا يتمنى العاقل زوال هذه الحياة الجسمانية ليستريح من ذلك النصب، ولله تعالى قول من قال: وقال:
ضجعة الموت رقدة يستريح الـ ** ـجسم فيها والعيش مثل السهاد

تعب كلها الحياة فما أعـ ** ـب إلا من راغب في ازدياد

إن حزنًا فس ساعة الفوت أضعا ** ف سرور في ساعة الميلاد

وقد ذكر غير واحد أن تمني الموت حبًا للقاء الله تعالى مما لا بأس به، وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «من أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه» الحديث.
نعم تمنى الموت عند نزول اللابء منتهى عنه ففي الخبر لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، وقال قوم: إنه عليه السلام لم يتمن الموت وإنما عدد نعم الله تعالى عليه ثم دعا بأن تدوم تلك النعم في باقي عمره حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام وألحقه بالصالحين.
والحاصل أنه عليه السلام إنما طلب الموافاة على الإسلام لا الوفاة، ولا يرد على القولين أنه من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام لا يموتون إلا مسلمين أما لأن الإسلام هنا بمعنى الاستسلام لكل ما قضاه الله تعالى أو لأن ذلك بيان لأنه وإن لم يتخلف ليس إلا بإرادة الله تعالى ومشيئته والذاهبون إلى الأول قالوا إنه عليه السلام لم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله تعالى وكان الحسن يذهب إلى القول الثاني ويقول: إنه عليه السلام عاش بعد هذا القول سنين كثيرة وروى المؤرخون أن يعقوب عليه السلام أقام مع يوسف أربعًا وعشرين سنة ثم توفى وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه فذهب به ودفنه ثمت وعاش بعده ثلاثًا وعشرين سنة وقيل: أكثر ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله تعالى طيبًا طاهرًا فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصل ليكونوا شرعًا فيه ففعلوا ثم أراد موسى عليه السلام نقله إلى مدفن آبائه فأخرجه بعد أربعمائة سنة على ما قيل: من صندوق المرمر لثقله وجعله في تابوت من خشب ونقله إلى ذلك، وكان عمره مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وسبع سنين، وقد ولد له من امرأة العزيز افراثيم وهو جد يوشع عليه السلام وميشا ورحمة زوجة أيوب عليه السلام، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه عليهم السلام إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام فكان ما كان.
وفي التوراة أن يوسف عليه السلام أسكن أباه وإخوته في مكان يقال له عين شمس من أرض السدير وبقي هناك سبع عشرة سنة وكان عمره حين دخل مصر مائة وثلاثين سنة ولما قرب أجله دعا يوسف عليه السلام فجاء ومعه ولداه منشا وهو بكره وافرايم فقدمهما إليه ودعا لهما ووضع يده اليمنى على رأس الأصغر واليسرى على رأس الأكبر وكان يوسف يحب عكس ذلك فكلم أباه فيه فقال: يا بني إني لأعلم أن ما يتناسل من هذا الأصغر أكثر مما يتناسل من هذا الأكبر ودعا ليوسف عليه السلام وبارك عليه وقال؛ يا بني إني ميت كان الله تعالى معكم وردكم إلى بلد أبيكم يا بني إذا أنا مت فلا تدفنني في مصر وادفني في مقبرة آبائي وقال: نعم يا أبا وحلف له ثم دعا سائر بنيه وأخبرهم بما ينالهم في أيامهم ثم أوصاهم بالدفن عند آبائه في الأرض التي اشتراها إبراهيم عليه السلام من عفرون الختى في أرض الشام وجعلها مقبرة، وبعد أن فرغ من وصيته عليه السلام توفي فانكب يوسف عليه السلام عليه يقبله ويبكى وأقام له حزنًا عظيمًا وحزن عليه أهل مصر كثيرًا ثم ذهب به يوسف وإخوته وسائر آله سوى الأطفال ومعهم قواد الملك ومشايخ أهل مصر ودفنوه في المكان الذي أراد ثم رجعوا، وقد توهم إخوة يوسف منه عليه السلام أن يسيء المعاملة معهم بعد موت أبيهم عليه السلام فلماعلم ذلك منهم قال لهم: لا تخافوا إني أخاف الله تعالى ثم عزاهم وجبر قلوبهم ثم أقام هو وآل أبيه بمصر وعاش مائة وعشر سنين حتى رأى لافرايم ثلاثة بنين وولد بنو ماخير بن منشا في حجره أيضًا، ثم لما أحس بقرب أجله قال لإخوته: إني ميت والله سبحانه سيذكركم ويردكم إلى البلد الذي أقسم أن يملكه إبراهيم وإسحاق ويعقوب فإذا ذكركم سبحانه وردكم إلى ذلك البلد فاحملوا عظامي معكم ثم توفى عليه السلام فحنطوه وصيروه في تابوت بمصر وبقى إلى زمن موسى عليه السلام فلما خرج حمله حسبما أوصى عليه السلام. اهـ.

.قال القاسمي:

{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ}
أي: بعضًا منه عظيمًا، وهو ملك مصر: {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي: تعبير الرؤيا: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: مبدعهما وخالقهما: {أَنتَ وَلِيِّي} أي: مالك أموري: {فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أي: من النبيين والمرسلين. دعا يوسف عليه السلام بهذا الدعاء لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته وما آثره به من العلم والملك، فسأل ربه عز وجل، كما أتم عليه نعمته في الدنيا، أن يحفظها عليه باقي عمره، حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام، وألحقه بالصالحين. فليس فيه تمنٍّ للموت، وطلب التوفي منجزًا كما قيل.
روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، إن كان محسنًا فيزداد، وإن كان مسيئًا فلعله يستعتب، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي» وفي رواية: «توفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي».
نبيهان:
الأول: في فقه هذه الآيات: قال بعض اليمانين: يستدل مما روي أن يوسف خرج للقاء أبيه، على حسن التعظيم باللقاء، وكذا يأتي مثله في التشييع، ومنه ما روي في تشييع الضيف: ويستدل مما روي أن المراد بأمه خالته- كما مر- أن من نسب رجلًا إلى خالته فقال: يا ابن فلانة! لم يكن قاذفًا لها. ويستدل من رفعهما على العرش- وهو السرير الرفيع- جواز اتخاذه، ورفع الغير، تعظيمًا للمرفوع، ويستدل من قوله: {وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ} على أن الانتقال منه نعمة، وذلك لما يحلق أهل البادية من الجفاء، والبعد عن موارد العلوم، وعن رفاهة المدنية، ولطف المعاشرة، والكمالات الإنسانية، وروي لجرير:
أرض الحراثة لو أتاها جرول ** أعني الحطيئة لاغتدى حراثا

ما جئتها من أي: وجه جئتها ** إلا حسبت بيوتها أجداثًا

وفي الحديث: «من بدا جفا» أي: من حل البادية. وفي آخر: «إن الجفا والقسوة في الفدادين». ففي هذا دليل على حسن النقلة من البوادي إلى المدن. بزيادة.
الثاني: قص كثير نبأ استقرار يعقوب وآله بمصر. ومجمله: أن يوسف اختار لمستقرهم أرض جاسان، فلما دخلوا مصر أخبر يوسف فرعون بقدوم أبيه وإخوته وجميع ما لهم إلى أرض جاسان، ثم أدخل أباه على فرعون، فأكرمه وكلمه حصة. وسأله عن عمره، فأجابه: مائة وثلاثون سنة، وأقطعه وبنيه أجود أرض في مصر، وهي أرض رعمسيس، أي: عين شمس، وملكها إياهم، ودعا له يعقوب ثم انصرف. ثم أخذ يوسف خمسة من إخوته، فمثلهم بين يدي فرعون، فقال لهم: ما حرفتكم فأجابوه- كما أوصاهم يوسف-: نحن وآباؤنا رعاة غنم! فقال فرعون ليوسف: إن كنت تعلم أن فيهم ذوي حذق، فأقمهم وكلاء على ماشيتي. وأجرى يوسف لأبيه وإخوته وسائر أهله طعامًا على حسبهم. وأقاموا في أرض مصر بجاسان فتملكوا فيها ونموا وكثروا جدًا، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة، فكانت مدة عمره كله مائة وسبعًا وأربعين سنة. ولما دنا أجله قال ليوسف: لا تدفني بمصر إذا مت، بل احملني منها إلى مدفن آبائي، فأجابه لذلك. ثم بعد مدة أخبر يوسف بمرض أبيه، فأخذ ولديه وسار إلى أبيه، فانتعش أبوه بمقدمه، ورأى ولديه، فقال: من هذان؟ فقال: ابناي رزقنيهما الله ها هنا. فقال: أدنهما مني، فأدناهما، فقبلهما، ودعا لهما، وقال له: لم أكن أظن أني أرى وجهك، والآن أراني الله نسلك أيضًا. ثم أعلم يوسف بدنو أجله، وبشره بأن الله سيكون معكم، ويردكم إلى أرض آبائكم، ثم دعا بقية بنيه، ودعا لهم بالبركة، وأوصاهم بأن يضموه إلى قومه، ويدفنوه مع آبائه في المغارة التي في حبرون، وهي المعروفة اليوم بمدينة الخليل، فإن فيها دفن إبراهيم، وسارة امرأته، وإسحاق ورفقة زوجته، وليأة امرأة يعقوب. ولما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه فاضت روحه، فوقع يوسف على وجه أبيه، وبكى وقبله. ثم أمر الأطباء أن يحنطوه ويصبروه. ولما انقضت أيام التعزية به، استأذن يوسف فرعون بأن يبرح لدفن أبيه؛ عملًا بوصيته، فأذن له وسار من مصر، وصحبه إخوته آل أبيه وحاشيته، ووجهاء مصر، وأتباع فرعون في موكب عظيم، إلى أن وصلوا أرض كنعان، ودفنوه في المغارة- كما أوصى- ثم عاد بمن معه إلى مصر، ولم يزل يوسف يرعى إخوته بالإكرام والإحسان، إلى أن قرب أجله، فأوصاهم بأن ينقلوه معهم إذا عادوا إلى الأرض التي كتبها الله لآبائهم. ثم توفي يوسف، وهو ابن مائة وعشر سنين، فحنطوه، وجعلوه في تابوت بمصر.
هذا ما قصه قدماء المؤرخين، والله أعلم بالحقائق. وإنما لم يذكر هذا القرآن الكريم؛ لأن القرآن لم يبْنَ على قانون التاريخ، فليس فيه شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار، وإنما هي الآيات والعبر، تجلت في سياق الوقائع، ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها، وإنما يذكر موضع العبرة فيها، كما سيأتي الإشارة إليه في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: من الآية 111]. وقوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: من الآية 120]. ومضى في المقدمة بسط هذا البحث، فراجعه. وسنذكر إن شاء الله في السورة شيئًا من الحكم والعبر المقتبسة من نبأ يوسف، فانتظر. اهـ.